والأمر إذن جد . . إنه أمر العقيدة من أساسها . . ثم هو أمر سعادة هذه البشرية أو شقائها . .
إن هذه البشرية - وهي من صنع الله - لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله ؛ ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده - سبحانه - وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق ، وشفاء كل داء: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين . . إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم . . ولكن هذه البشرية لا تريد أن ترد القفل إلى صانعه ، ولا أن تذهب بالمريض إلى مبدعه ، ولا تسلك في أمر نفسها ، وفي أمر إنسانيتها ، وفي أمر سعادتها أو شقوتها . . ما تعودت أن تسلكه في أمر الأجهزة والآلات المادية الزهيدة التي تستخدمها في حاجاتها اليومية الصغيرة . . وهي تعلم أنها تستدعي لإصلاح الجهاز مهندس المصنع الذي صنع الجهاز . ولكنها لا تطبق هذه القاعدة على الإنسان نفسه ، فترده إلى المصنع الذي منه خرج ، ولا أن تستفتي المبدع الذي أنشأ هذا الجهاز العجيب ، الجهاز الإنساني العظيم الكريم الدقيق اللطيف ، الذي لا يعلم مساربه ومداخله إلا الذي أبدعه وأنشأه: إنه عليم بذات الصدور . ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ؟ . .
ومن هنا جاءت الشقوة للبشرية الضالة . البشرية المسكينة الحائرة ، البشرية التي لن تجد الرشد ، ولن تجد الهدى ، ولن تجد الراحة ، ولن تجد السعادة ، إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى صانعها الكبير ، كما ترد الجهاز الزهيد إلى صانعه الصغير !
ولقد كانت تنحية الإسلام عن قيادة البشرية حدثا هائلا في تاريخها ، ونكبة قاصمة في حياتها ، نكبة لم تعرف لها البشرية نظيرا في كل ما ألم بها من نكبات . .
لقد كان الإسلام قد تسلم القيادة بعد ما فسدت الأرض ، وأسنت الحياة ، وتعفنت القيادات ، وذاقت البشرية الويلات من القيادات المتعفنة ؛ و ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس . .
تسلم الإسلام القيادة بهذا القرآن ، وبالتصور الجديد الذي جاء به القرآن ، وبالشريعة المستمدة من هذا التصور . . فكان ذلك مولدا جديدا للإنسان أعظم في حقيقته من المولد الذي كانت به نشأته . لقد أنشأ هذا القرآن للبشرية تصورا جديدا عن الوجود والحياة والقيم والنظم ؛ كما حقق لها واقعا اجتماعيا فريدا ، كان يعز على خيالها تصوره مجرد تصور ، قبل أن ينشئه لها القرآن إنشاء . . نعم ! لقد كان هذا الواقع من النظافة والجمال ، والعظمة والارتفاع ، والبساطة واليسر ، والواقعية والإيجابية ، والتوازن والتناسق . . . بحيث لا يخطر للبشرية على بال ، لولا أن الله أراده لها ، وحققه في حياتها . . في ظلال القرآن ، ومنهج القرآن ، وشريعة القرآن .
ثم وقعت تلك النكبة القاصمة . ونحي الإسلام عن القيادة . نحي عنها لتتولاها الجاهلية مرة أخرى ، في صورة من صورها الكثيرة . صورة التفكير المادي الذي تتعاجب به البشرية اليوم ، كما يتعاجب الأطفال بالثوب المبرقش واللعبة الزاهية الألوان !
إن هناك عصابة من المضللين الخادعين أعداء البشرية . يضعون لها المنهج الإلهي في كفة والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى ؛ ثم يقولون لها:اختاري !!! اختاري إما المنهج الإلهي في الحياة والتخلي عن كل ما أبدعته يد الإنسان في عالم المادة ، وإما الأخذ بثمار المعرفة الإنسانية والتخلي عن منهج الله !!! وهذا خداع لئيم خبيث . فوضع المسألة ليس هكذا أبدا . . إن المنهج الإلهي ليس عدوا للإبداع الإنساني . إنما هو منشئ لهذا الإبداع وموجه له الوجهة الصحيحة . . ذلك كي ينهض الإنسان بمقام الخلافة في الأرض . هذا المقام الذي منحه الله له ، وأقدره عليه ، ووهبه من الطاقات المكنونة ما يكافئ الواجب المفروض عليه فيه ؛ وسخر له من القوانين الكونية ما يعينه على تحقيقه ؛ ونسق بين تكوينه وتكوين هذا الكون ليملك الحياة والعمل والإبداع . . على أن يكون الإبداع نفسه عبادة لله ، ووسيلة من وسائل شكره على آلائه العظام ، والتقيد بشرطه في عقد الخلافة ؛ وهو أن يعمل ويتحرك في نطاق ما يرضي الله . فأما أولئك الذين يضعون المنهج الإلهي في كفة ، والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى . . فهم سيئو النية ، شريرون ، يطاردون البشرية المتعبة الحائرة كلما تعبت من التيه والحيرة والضلال ، وهمت أن تسمع لصوت الحادي الناصح ، وأن تؤوب من المتاهة المهلكة وأن تطمئن إلى كنف الله . . .
وهنالك آخرون لا ينقصهم حسن النية ؛ ولكن ينقصهم الوعي الشامل ، والإدراك العميق . . هؤلاء يبهرهم ما كشفه الإنسان من القوى والقوانين الطبيعية ، وتروعهم انتصارات الإنسان في عالم المادة . فيفصل ذلك البهر وهذه الروعة في شعورهم بين القوى الطبيعية والقيم الإيمانية ، وعملها وأثرها الواقعي في الكون وفي واقع الحياة ؛ ويجعلون للقوانين الطبيعية مجالا ، وللقيم الإيمانية مجالا آخر ؛ ويحسبون أن القوانين الطبيعية تسير في طريقها غير متأثرة بالقيم الإيمانية ، وتعطي نتائجها سواء آمن الناس أم كفروا . اتبعوا منهج الله أم خالفوا عنه . حكموا بشريعة الله أم بأهواء الناس !
هذا وهم . . إنه فصل بين نوعين من السنن الإلهية هما في حقيقتهما غير منفصلين . فهذه القيم الإيمانية هي بعض سنن الله في الكون كالقوانين الطبيعية سواء بسواء . ونتائجها مرتبطة ومتداخلة ؛ ولا مبرر للفصل بينهما في حس المؤمن وفي تصوره . . وهذا هو التصور الصحيح الذي ينشئه القرآن في النفس حين تعيش في ظلال القرآن . ينشئه وهو يتحدث عن أهل الكتب السابقة وانحرافهم عنها وأثر هذا الانحراف في نهاية المطاف: ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم . ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم . وينشئه وهو يتحدث عن وعد نوح لقومه: فقلت:استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبنين ، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا . . وينشئه وهو يربط بين الواقع النفسي للناس والواقع الخارجي الذي يفعله الله بهم إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . .
إن الإيمان بالله ، وعبادته على استقامة ، وإقرار شريعته في الأرض . . . كلها إنفاذ لسنن الله . وهي سنن ذات فاعلية إيجابية ، نابعة من ذات المنبع الذي تنبثق منه سائر السنن الكونية التي نرى آثارها الواقعية بالحس والاختبار .
ولقد تأخذنا في بعض الأحيان مظاهر خادعة لافتراق السنن الكونية ، حين نرى أن اتباع القوانين الطبيعية يؤدي إلى النجاح مع مخالفة القيم الإيمانية . . هذا الافتراق قد لا تظهر نتائجه في أول الطريق ؛ ولكنها تظهر حتما في نهايته . . وهذا ما وقع للمجتمع الإسلامي نفسه . لقد بدأ خط صعوده من نقطة التقاء القوانين الطبيعية في حياته مع القيم الإيمانية . وبدأ خط هبوطه من نقطة افتراقهما . وظل يهبط ويهبط كلما انفرجت زاوية الافتراق حتى وصل إلى الحضيض عندما أهمل السنن الطبيعية والقيم الإيمانية جميعا . .
وفي الطرف الآخر تقف الحضارة المادية اليوم . تقف كالطائر الذي يرف بجناح واحد جبار ، بينما جناحه الآخر مهيض ، فيرتقي في الإبداع المادي بقدر ما يرتكس في المعنى الإنساني . ويعاني من القلق والحيرة والأمراض النفسية والعصبية ما يصرخ منه العقلاء هناك . . لولا أنهم لا يهتدون إلى منهج الله وهو وحده العلاج والدواء .
إن شريعة الله للناس هي طرف من قانونه الكلي في الكون . فإنفاذ هذه الشريعة لا بد أن يكون له أثر إيجابي في التنسيق بين سيرة الناس وسيرة الكون . . والشريعة إن هي إلا ثمرة الإيمان لا تقوم وحدها بغير أصلها الكبير . فهي موضوعة لتنفذ في مجتمع مسلم ، كما أنها موضوعة لتساهم في بناء المجتمع المسلم . وهي متكاملة مع التصور الإسلامي كله للوجود الكبير وللوجود الإنساني ، ومع ما ينشئه هذا التصور من تقوى في الضمير ، ونظافة في الشعور ، وضخامة في الاهتمامات ، ورفعة في الخلق ، واستقامة في السلوك . . . وهكذا يبدو التكامل والتناسق بين سنن الله كلها سواء ما نسميه القوانين الطبيعية وما نسميه القيم الإيمانية . . فكلها أطراف من سنة الله الشاملة لهذا الوجود .
والإنسان كذلك قوة من قوى الوجود . وعمله وإرادته ، وإيمانه وصلاحه ، وعبادتهونشاطه . . . . هي كذلك قوى ذات آثار إيجابية في هذا الوجود وهي مرتبطة بسنة الله الشاملة للوجود . . وكلها تعمل متناسقة ، وتعطي ثمارها كاملة حين تتجمع وتتناسق ، بينما تفسد آثارها وتضطرب وتفسد الحياة معها ، وتنتشر الشقوة بين الناس والتعاسة حين تفترق وتتصادم: ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . . فالارتباط قائم وثيق بين عمل الإنسان وشعوره وبين ماجريات الأحداث في نطاق السنة الإلهية الشاملة للجميع . ولا يوحي بتمزيق هذا الارتباط ، ولا يدعو إلى الإخلال بهذا التناسق ، ولا يحول بين الناس وسنة الله الجارية ، إلا عدو للبشرية يطاردها دون الهدى ؛ وينبغي لها أن تطارده ، وتقصيه من طريقها إلى ربها الكريم . .
هذه بعض الخواطر والانطباعات من فترة الحياة في ظلال القرآن . لعل الله ينفع بها ويهدي . وما تشاءون إلا أن يشاء الله .